Ihre Browserversion ist veraltet. Wir empfehlen, Ihren Browser auf die neueste Version zu aktualisieren.





مات علي جباره ، قالها أخي ببساطة صادمة .
كنت أقول له إن عليا ربما أماتنا جميعا قبل أن يموت ذلك إنه لم يَشكُ من شيء.

 قال : مات  ! ألم تسمع ؟ و في اليوم التالي ، وصوتي يتهدج ، كنت أكثر من رواية كيف أن عليا مات ، لأناس لا يعرفونه ولا يكترثون لموته .
لم يكن موت علي جباره مجرد موت ، بل كان شرخا في ذاكرة القرية ، فقدانا مريعا لأحد ملامحها الآيلة إلى الزوال ، هذه القرية التي تتميز بالألمعيات والجنون، بخرسانها الثلاثة الذين يكثرون من لعب الدمينو في مقهى غائب السعدي مفتقدين رابعا ، و عميانها الذين يتسلقون النخيل ويقومون بجني التمر ، ومجانينها الذين لا يحصون .
"أنا مسلوب الإرادة تماما يا منير" ـ حسنا يا علي أنا أعرف هذا ، ولكن لماذا تجلس على الأرض؟ تعال اجلس إلى جانبي هنا على الأريكة ـ " اتركني وشأني ، أنا متسخ سأوسخ لكم كل شيء ، أنا مسلوب الإرادة ، حين أكون في البيت( أخوط ) الشاي بإصبعي ليس بمستطاعي أن اجلب ملعقة " ـ حسنا علي أنا أعرف مرضك هذا منذ أكثر من عشرين عاما ، ولكن قم ولا تبقَ جالسا على الأرض ، اجلس هنا بجانبي ..
ـ " اتركني وشأني ، الكثير من الإلحاح يجعلني أتقيأ " حسنا ، علي ، لا تتقيأ ابق جالسا حيث شئت .
" هل قررت حقا المغادرة و الإقامة في الخارج ؟ "
ـ نعم سأغادر
" من سيبقى أذن إذ أنتم تغيبون واحدا إثر واحد ؟ لمن تتركون البلد ؟"
ـ ............ كان هذا آخر سؤال سمعته من علي .
* * * *
الى الجسم المتسخ الذي فنيَ ، إلى الروح الأكثر نظافة في عصر الاتساخ ، إلى (علي) أهدي هذا النص

أي بلـــــــــد هذا الذي ليس فيـــــه نخيــــل
منـــــــير العبـــــيدي

 

سالت دموعي و أنا أنظر إلى الصورة التي أُرسلت من الوطن بالبريد، حين رأيت نخلة دارنا ...كانت الصورة تضم ولديّ وزوجتي والنخلة في خلفية الصورة، كنتُ قد التقطت هذه الصورة منذ بضع سنين .. ولقد نظرت إليها مراراً بلا مبالاة، ولكن في الوطن ووسط آلاف النخيل الذي يطوقني أنّى صوبت بصري...وجدت إني قد بكيت نخلة الدار، التي ابتعدتُ عنها و ابتعدت عني، كما بكيت مرارا بُعدي عنهما .. وها أنا أغادر في رحلة اللاعودة ناظراً إليهم والى نخلة الدار من خلال صورة .
يقول أديب، الذي يجهد دائماً في أن يقول أشياء غير مألــوفة : إن النخــلة شــــجرة غير جميلة، وحين استنكرت عليه ذلك، وهممت بمناقشته، قال بتبرم : أنا حر فيما أراه جميلا.( إلى أي مدى يمكن استخدام الحرية ؟!).. قال إن النخلة جميلة في لوحاتك فقط .( ما هي الحــــدود بين الحقيقة والمجاملة )؟ ..
في" خريف البطريرك" كتب غابريل غارسيا ماركيز" ، الذي أُحب أن ألفظ اسمه كاملا ،  أن البطريرك قد أعلن بموجب مرسوم أن الكاتدرائية التي في بــــلده هي أجمل كاتدرائية في العالم . اعتقدت في حينها إن أقصى درجات الدكتاتورية هو أن يُعلن شـيء ما جميلاً بل و الأكثر جمالا ًبمرسوم .
حين ترسم كما ارسم أنا مهتماً بالتفاصيل، حتى تشققات الكرب، حيث الزمن يبدأ متسامياً من الأسفل، مفصحاً عن نفسه متعاقباً بصفوفٍ من الكرب المتغاير القدم، حين تفعل ذلك، وربما لا تفعل، مستنكراً عليّ اهتمامي بالتفاصيل ـ أنا حر في التعبير عن التفاصيل ـ حين تفعل ذلك فأنك تدخل في مسامات الأشياء ـ أو أنا الذي ادخل ـ، سترى صدى التاريخ ليس ذاك الذي صنعه الإسكندر أو نابليون . سترى، حينئذٍ، أمام ناظريك ملايين الأقدام الخشنة والمتشققة لأجيالٍ ٍمن الكادحين وقد توالت على مر السنين ملامـسةً تدرجـــات جذعها ، منذ الخليقة حيث أعالت النخلة ملايين الناس بعيداً عن هم السلطة، مقدمة لهم الغذاء والظلال وشعوراً بالشموخ.

لو أن أديب ، الذي يجــهد في أن يقول أشياء بمنتهى الغرابة ، قال ذلك وسط مزارعي قريتنا ، الذين يترامون على تخوت المقاهي بعد يوم عملٍ شاق،لنظر إليه الجميع مستغربين ، ذلك أنهم لم يطرحوا على أنفسهم ، كما أن أحداً لم يطــرح عليهم مثل هذا السؤال ، كانوا سينتظـرون سؤالا آخر، ربما عن التكريب أو التلقيح أو جني المحصول . في مقاهينا الجميلة تلك ، في حقبة التلفزيون وحقبة ما قبل التلفزيون، كانوا يرتادونها وهم يلبسون دشاديشهم الفضفاضة شادين عليها أحزمة الجلد بلونها الأحمر الفاقع قبل أن يســتبدلونها جميعاً،وكأنما بأمرٍ، (بنطاقات) عسكرية بعد حربين ونيف ضد النخيل ،.. كانت قريتي تتـــخلى كل يوم عن آخر ملامح براءتها وعزلتها.

 
فهل حقاً أشتاق إلى نخلة الدار شوقي لزوجتي وولديّ ؟ وهل أستطيع أن أميز بينهما في صــــورةٍ أبعادها بقدر الكف وهمومها بقدر الوطن؟

 اكتب لزوجتي في الرسالة : لا تقارني " نحن نشتاق لك أيضاً كما تشتاق إلينا" فأنا اشتاق لأربعة : أنت والأولاد ونخلة الدار وانتم تشتاقون لواحد ، الذي هو أنا... أنا في المكان الخطأ وأنتم في المكان الصحيح الذي لم يعد صحيحاً، أنا في بلد ليس فيه نخيل ـ .. كتبت الى مجموعة ( الدهلكي) ، حيث كنا نشرب العرق ، كطقسٍ محرم ، في قبوٍ ملحق بالمحل بعيداً عن أنظار السلطة التي حرّمت المشروبات في أماكن الشرب العامة خوفاً من الله:
"أنا الآن في بلد ليس فيه نخيل ، لقد تلفّت كثيراً ولكــنني لم أشاهد واحدة ، هل توجــــد بلدان بدون نخيل؟ "..قالوا لابني : " أبــــوك يقول ســخافات ، قل له أن لا يعود . وكتبوا : لا تعــد كما فعلت عام 1993 فحتى النخيل قد سأم هنا ".
قلت له يا أديب يا عزيزي قالوا انك لا تحب النخلة وتقول أنها كائن بشع ، كيف يتسنى لك ذلك ؟
قلت له ذلك بوّدٍ والله ، ولكنه أجابــني بحدة : لماذا تثيرون كل هذه الضجة كما لو أني ارتكبت جرماً من حقـــي يا أخي أن لا أحب أي شيء ، هذه حـريتي ، فإبراهيم مثلا لا يحب البرتقال مع الزحلاوي وأنت لا أدري ماذا لا تحب ،.. قال إبراهيم أتركه فهو يحب أن يقول مالا يعقل لكي يلفت إليه الأنظار.
* * * *
في بيتنا القديم زرعنا فسيلا ، اعتبره ابني الكبير ، لسبب ما، عائداً له . وحين ذهب للعمل في ليبيا كان يُكثر من رسائل الشوق والحـــنين ويكثر من المكالمات الهاتفية ـ تماماً كما أفعـــل أنا الآن ـ كان يسأل عن الوالدة والوالد، الذي هو أنا، وعن أخيه الأصغر ، وعن الفســيل . كيف أصـــبح الفسيل ؟ هل نما ؟ إلى أي مدىً طال سـعفه ؟ وكنا نجيبه على كافة الأسئلة بصبر رغم أن المكالمات الهاتفية والمراسلات كانت غالية.
أما أنا فكنت أهتم بصمت بالفسيل ، كان بيني وبينه حوار صامت ، كنت أتأمل جماله المتشظي في كل الاتجاهات انطلاقاً من المركز. في لوحاتي ، التي غالبًا ما تمثل قريتي المحاطة بأبهة النخيل، أجهد أن أرسم النخيل كما أحسه وأفهمه ، انفـــجارات المركز في كل الإتجـــــهات على قماش اللوحة ذي البعدين .
في أيام الصيف القائض كنت أُحمـــمه برشاش المــاء البارد، متـــجاهلا نصائح ( الخبراء) بأن العطب سوف يصـــيبه في مكان ( القلبه) ، كنت أشعر إنه يرتاح يتألق ويتعافى ملتمعاً . وفي البيت الذي انتقلنا إليه لاحقاً ، قبيل أن أُضطر الى الرحيل ، كانت ثمة نخلتان كبيرتان ، ذلك ما قاله لي صاحب الدار في مسعاه لترويج بضاعته ، لم يقل أن مساحته كذا وكذا أو أن فيه كذا من الغرف. قال أن فيه نخلتان ، ..و حتى مكتـــبتي التي تركتها ورائي كان فيها" نخلة الله" لحسب الشيخ جعفر... أما مقصورة الجواهري فقد حفظت أغلــبها عن ظــهر قلب ، أما الآن ، في هذا البلد، فإني أنظر أحياناً من طابقي التاسع فلا أرى أية نخلة حتى في الأفق البعيد.
* * * *
كانت القرية ترتاح على الجانب الأيسر لمجرى النهر ، بيوتها ، بساتينها ونخلها، أما الجانب المقابل فقد كانت فيه ثلاث نخلات شقيقات ، متشابهات الــطول أو يكدن ... ـ فـرادة مطلقة ...ها ؟ ـ في الأرض العذراء التي لم تغيرها أيدي البشر ربما منذ الآلاف السنين . كنا نعبر إلــــيها ( بسفينة) وقارب يعود لـ "حمزة" و أ حياناً ( بقفة ) تفوح منها رائحة القار وفيها دائماً بقايا عشــبٍ قديم ، في هذه الأرض العذراء ، التي كانت فيها النخلات الثلاث هي الشاخص الوحيد، كنت مولعا منذ طفولتي بتتبع آثار الريح والمطر على سطحها ، شبكاتٍ من عروقٍ صغيرةٍ ودقيقة ممـــــا تركه المطر والريح تتقارب وتتحد وتتضخم كلما انحدرنا باتجاه النهر حتى تتحول إلى مصــبٍ ضخم
كانت النخلات الثلاث يحملن آثار رصاصٍ قديم. أمي ، التي تحمل خلف قشرة مـظهرها الصارم ، رقة و كرها لا حدود له للظلم والظالمين والذي كان أحسن ، وربما أسوأ ، ما أورثتنــي ، روت لنا بألمٍ وغضبٍ لم تضعفه السنون ، كيف أن زواراً للعتبات المقدسة كانوا يسلكون هذا الطريق عابرين النهر إلى الضفة الأخرى باعتباره أقصـر طريق إلى بغـــداد، قد تعــرضوا إلى غــارةٍ قُتل فيها أميرهم ، كان القاتل حتى بضع سنين على قيد الحياة ، كان عدواً لدوداً للنخيل ، وخصوصاً في العام 1963 .
على الشاطئ الرملي الذي يتــسع كثيــراً أيام الصــيف ، في الجــانب الذي تقع فيه القرية ، كانت ملاعب طفولتنا ، أما ( علــي جباره )الذي كان يكبرنا بســـنين قليلة ، والذي كان من أوائل الذين ارتدوا النظارات الطبية والتي اعتبرها الكثيرون بطراً أو بدعة لا ضرورة لها، فقد كان يجلس متطلعا إلى النخلات الثلاث صامتا ، حتى سقطت واحدة وتلتها بعد حين الأخرى ، ربما بسبب فجوات الرصاص القديم ، وبقيت نــخلة واحدة ، خرج( علي) عن صمته وقال " لقد بقيت وحيدةً مثلي" قالها بأسى . حتى لكأنه انتـظر هذه اللحظة منذ سنوات كقدر محتّم ، منذ ذلك الحين لم يعرف علي الفرح.
في عام 1963 أعتقل (علي) لأنه كان صامتاً ، ولان ذاك يعني إنــه يفكر. من الذي قال : " حين أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي " أنا قلت : إنه "غوبلز " ولكن منصور يقول إنه غورنغ أو ربما قال هملر .. لا أذكر ..في نفس هذه الســـــنة كمــا روى تركي الحميري : " كنت ماراً في الشارع الذي يقع فيه إتحاد الأدباء، وأنا في الطابق الثاني للباص، الذي ربما سماه(الأمانه)، ورأيت في الساحة الأمامية لاتحاد الأدباء، كما قال، جمعاً من العسكر وقد جمّعوا كل الكـتب وأحرقوها ... كانت السماء تمطر ومع ذلك كانت الكتب تحترق" . أما خالد الجادر الذي ترك رحيله المأساوي بعيدا عن الوطن لدي ألما وفراغا لا يعوض، فقد روى كيف اقتيد من غرفة السجن خلف السدة إلى غرفة صغيرة فيها إثنا عشر أستاذا جامعيا كان بضمنهم العالم المرحوم عبد الجبار عبد الله وكانت وجوه بعضهم قد أدميت ضربا، وان خزانات غرفة العمادة في اكاديمية الفنون قد حطمت أقفالها ونثرت ومزقت وأحرقت عشرات الكتب الفنية الحديثة.

* * *
يعيش (علي) حتى الان بضمير يقض في زمن اللاضمير... كيف أبيع الأدوية يا مـنير ؟ يقول ، هل ترضى أنت بذلك ؟ " إن تلك الأدوية التي ارفض أن أسرقها ، يسرقها احد ٌغيـري شبعان ...؟!! "
ولكنك أنت جوعان يا (علي ) لا تملك ثمن رغيف..." يســـرقون الحليب من العــــيادة الشــعبية ، ويسجلون أبناءً وهميــــين وعائلات وهمية ، يــسرقون حليب المســاعدات وأنا في العيادة أتفرج وضميري يتعذب ولا أفعل شيئاً ولا أنام ،كتب الطبيب لي فاليوم 5 .. وأنا لا أنام .. سرقوا النخلة التي خلف العيادة . الفراش الذي يخافه المدير سرقها تــسلقها ببدلته ( الزيتوني) وقص العثــوق قبل أن تنضج خشية أن يسبقه احد إليها : " تصلح خلاً على الأقل" قال وهو يضحك نافضاً عن بدلته نسيج العنكبوت والغبار الذي لوّث شرفه العسكري الذي لم تلوثه الهزائم " .
في نادي الشبيبة في العام 1958 ازدهر ( علّي) وتفتح مثل نخلةٍ أطلعت ، لم يكن من السياسة بشيء ، كان يشعر أن أبواباً للسعادة تفتّحت وحين أغلق المحافظ نادي الشبيبة ، بعد ذلك بسنتين، أغلق (علي ) الأبواب على نفسه ودخل في صمتٍ طويل وكان يقضي الساعات الطويلة جالساً على الجــرف مراقباً النخـــــلات الثلاث حــتى قال عن النخلة التي تبقّت" بقيت وحيدةً مــثلي"
كانوا اعتقلوه لأنه كان صامتاً واعتقلوا آخرين لأنهم يتكلمون وأنا كنــت صغيراً لا أفهم ، إلا أنهم طلبوا من الجميع أن يتكلموا وعندما رفض( خضير) أن يتكلم ضربوه كثيراً، كان الرجــال الذين لم يبق منهم الكثير خارج السجن ، حيث كانت المقاهي فارغة ، كان القليل مــنهم الذي تبقّى يقول عن خضير أنه شجاع لأنه لم يتكلم أما (علي) فلم يمكث طويلاً في السجن أطلقوا سراحه وكانت لحيته طويلة قال (حسّان المعتوه)، الذي يحبه جده كثيراً لأنه يعمل كثـــيراً، قال إن" لحيته كانت كدف" لم أفهم كيف للحية أن تكون دفاً ولا أزال لا أفهم ، كما إني لم أفهم كيف يمكن أن يكون للحساء " طعم نافذة " كما يرى أحد أبطال رواية ( الحب في زمن الكوليرا )